المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاشتغال بالوسائل عن الغايات (1-2)


سلوان
05-03-2021, 07:35 AM
الاشتغال بالوسائل عن الغايات (1-2)

https://basaer-online.com/wp-content/uploads/fly-images/31278/muslim-praying-420x280-c.jpg

إن الشغل الشاغل في الحياة يجب أن يكون إجابة سؤال:
"كيف أجعل من هذه الأداة، أو هذا الرزق -نعمة كانت أم ابتلاء- وسيلة تقربني من رضا ربي؟ كيف أبتغي فيما آتاني الله من صحة وعلم ووقت فراغ وأسرة وأجهزة ومال ومتاع... كيف أبتغي في كل منها الدار الآخرة؟ كيف أستعين بها على العبور، وأجعل منها لي رصيداً خالداً؟" هذا السؤال بالضرورة يعينك على وضع الأمور في حجمها الحقيقي، وعدم تضخيم الصغير وتصغير الكبير، بل وترتيب أولوياتك الأوْلَى فالأولى، فتطوِّع في الأداة أو تلغيها، أو تستزيد منها بحسب تمكنك من إتقان الإجابة فيها قدر الإمكان:
(مَنْ جَعَلَ الْهَمَّ هَمًّا وَاحِدًا، هم آخرته، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْهُ الْهُمُومُ لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا هَلَكَ)
(رواه البيهقي في شعب الإيمان).

كونك -مثلاً- طالباً أو موظفاً أو والداً، لا ينفي ولا يلغي كونك عبداً لله في المقام الأول، بل إنه يوجّه تعاملك وفهمك لهذه الأدوار، فإذا كنت طالباً تسهر للدراسة، ينبغي بناءً على الاعتبارات السابقة ألا تجور الدراسة بحال على الحد الأدنى من الفروض والأوراد الأساسية في أوقاتها، لا ينبغي أن تفوتك زهرة الشباب -عامة- بغير رصيد كبير من النوافل، والقيام، والأذكار، وتعاهد القرآن، وعبادات الخلوة والسر، وكذلك التنبه إلى الاستزادة والتوسع العلمي، وعدم التوقف عند حدود الدراسة، فإن لكل عمر شغله، وهذه الفترة هي مرحلة ذهبية، حيث الانشغالات محدودة، والأعباء مرفوعة.

فأنت إنما تودع رصيداً لدى ربك من صحتك لوقت مرضك، ومن فراغك لوقت شغلك، ومن غناك لوقت فقرك،
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنكبي فقال:
(كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل).
فكان ابن عمر يقول في شرحه لهذا الحديث:
"إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"
(رواه البخاري).

وإذا كنت تسرف في العمل فوق المطلوب؛ لتحصيل مرتّب أعلى، أو تنمية سيرتك المهنية، لربما تراجع نفسك في أولوية صرف تلك الأوقات مع أولادك وأسرتك، أو الالتفات لتزكية نفسك وتهذيبها، وتعهد كتاب الله تعالى بالتلاوة والتدبر والحفظ والتفسير، عسى أن يكون لك نوراً في قبرك، وشفيعاً عند ربك.

تأمل هذين النموذجين وعاقبتيهما:

-لَمَّا احْتُضِرَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَبْصَرَ أَهْلَهُ يَبْكُونَ حَوْلَهُ، فَقَالَ: "جَادَ عَلَيْكُمْ هِشَامٌ بِالدُّنْيَا، وَجُدْتُمْ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ، وَتَرَكَ لَكُمْ مَا جَمَعَ، وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا حَمَلَ، مَا أَعْظَمَ مُتَقَلَّبَ هِشَامٍ إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ."
(أخبار المُحْتَضَرين: ابنُ أبي الدنيا).

-ولما حضرت عمرَ بن عبد العزيز الوفاةُ، دخل عليه مَسلمة بن عبد الملك، وقال:
"إنك يا أمير المؤمنين قد فَطَمت أفواه أولادك عن هذا المال، فحبذا لو أوصيت بهم إليك،
أو إلى من تفضّله من أهل بيتك".

فلما انتهى من كلامه قال عمر:
"أجلسوني"، فأجلسوه، فقال: "قد سمعتُ مقالتك يا مَسلمة، أمَا قولك قد فطمت أفواه أولادي
عن هذا المال، فإني واللهِ ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم.
وأما قولك: لو أوصيت بهم إلي، أو إلى من تفضله من أهل بيتك،
فإنما وصيي ووليي فيهم الله الذي نزّل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين،
واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحدُ رجلين: إما رجل صالح متقن فسيغنيه الله من فضله،
ويجعل له من أمره مخرجاً، وإما رجل طالح مكبٌّ على المعاصي،
فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى".

ثم دعا أولاده وقال لهم: "أي بني، لقد تركتكم وتركت لكم خيراً كثيراً، يا بني إن أباكم مثل بين أمرين:
إما أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب، قوموا يعصمكم الله، قوموا يرزقكم الله".
فلما نهضوا وتركوه، سمعوهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
[القصص:83] ..
فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِضَ" (سيرة ومناقب الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز – لابن الجوزي)

ويروي الراوي بعد ذلك أن عمر بن عبد العزيز خلف أحد عشر ابناً، وبلغت تَركته سبعة عشر ديناراً، كُفّن منها بخمسة دنانير، واشترى موضعاً لقبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً.
ومات هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابناً، وأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار،
فرأيتُ -الكلام للراوي- رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله،
ورأيت رجلاً من ولد هشام يسأل؛ ليُتصدق عليه!!".

الشاهد من هاتين القصتين، أننا نأخذ بأسباب القوة والكسب والعمل والتحصيل؛
لأننا نتعبد لله تعالى بالأسباب، لا لأننا نتعلق بنتائجها، ونعتقد بأنها هي المسببة بذاتها،
فالله تعالى هو المسبب بفضله ومشيئته، وكم من خارج لطلب رزق مُعيّن،
يأخذ بأسبابه ثم لا يأذن الله أن يؤتاه، ويكتب الله له غيره، أو خيراً منه.
فالأخذ بالأسباب وتحصيل الوسائل هو من باب التعبد لله تعالى، وامتثال أمره،
وهَدْي نبيّه صلى الله عليه وسلم بحسن التوكل عليه: (اعقلها وتوكّل)
(رواه الترمذي)،
وليس التعلّق بها والتشنج لها كأن بيدها الأمر،
لذلك كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول:
(إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ وَاللَّهُ يَهْدِي، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي)
(رواه الطبراني).


هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات.
محرّرة لغوية ومترجِمة.
مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية.